الكلمة التأطيرية

خطاب معالي العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه
رئيس منتدى أبوظبي للسّلم
رئيس المؤتمر الإفريقي

انواكشوط - موريتانيا
 21 رجب 1446 هـ
 م2025 يناير 21

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فخامة الرئيس السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية، رئيس الاتحاد الإفريقي
معالي جانو أهوسو كواديو وزير الدولة المستشار الخاص في رئاسة جمهورية كوت ديفوار ممثلاً لفخامة الرئيس الحسن واتارا رئيس جمهورية كوت ديفوار
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة، كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

فخامة الرئيس، يسعدني في مستهّل كلمتي هذه، أنْ أتقدّم باسم الحاضرين بجزيل الشكر لفخامتكم، ولحكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية، على الرعاية الكريمة لهذا المؤتمر، وعلى ما تبذلونه من الدّعم والمساندة والتأييد لجهود السلام في العالم وفي إفريقيا خاصة من خلال رئاستكم للاتحاد الافريقي.
وأنْتهز هذه السانحة لأبلغكم تحيّات أخيكم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، الذي يشاطركم الاهتمام بالسّلام في إفريقيا والعالم أجمع، والتصدّي لتحديات الاستقرار والازدهار، فتلك رؤية مشتركة للدولتين.
كما نرحب بضيف الشرف لهذه السنة فخامة الرئيس الحسن واتارا في شخصه الكريم ولما قام به من جهود مقدرة للمّ شمل ساكنة كوت ديفوار بعدما كادت تعصف به حرب أهلية ضروس ولهذا استحق اليوم تقديرنا والفوز بجائزة إفريقيا لتعزيز السلم، وبتلك الجهود عادت جمهورية كوت ديفوار، الدولة الإفريقية الشقيقة والصديقة إلى نموذج جميل للتعايش ومجتمع المواطنة الحاضنة للتنوع في تَمَثُل يستحق التقدير والتبجيل.

ويَسُرني أن أذكر بروح السلم التي كانت تسكن كوت ديفوار منذ أمد بعيد، حيث يقول أبو الأمة الايفوارية أول رئيس للدولة بعد الاستقلال Félix Houphouët-Boigny:
"  Nous n'avons qu'un objet de haine : la guerre, qu'une seule obsession : la paix, la paix des cœurs, la paix sociale, la paix entre les Nations "

كما يسرني أن أرحب بضيوفنا من نخبة أهل السلوك المربين والقراء المجودين والمحدثين المبرزين والفقهاء المستبصرين والأكاديميين المبدعين والدبلوماسيين والسياسيين، إن هذا المزيج يمثل أهل الحكمة الذين نعول عليهم لإثراء هذا المؤتمر بعلمهم وحصافتهم في تأليف القلوب وتنوير العقول.

الحضور الكريم،
إن القارة الإفريقية التي يعدُّها كثير من الدَّارِسِين مستقبلَ العالم، لما تزخر به من مقومات طبيعية وبشرية، تتفاعل فيها اليوم عوامل الاضطرابات الداخلية والصراعات الدولية التي تَهبّ عليها من كلَّ حَدَبٍ وصَوْب.
فمن السودان شرقاً إلى مالي غرباً، ومن ليبيا شمالاً إلى الموزمبيق جنوباً، تعيش المجتمعات الإفريقية أحد أسوء فصول الموت والاضطراب التي عرفتها في العصر الحديث بحيث تم تهديد كيان الدّول ووحدة أراضيها. إننا نشهد قتال أبناء البلد الواحد، ونتحدث عن قتل الأخ لأخيه في الدين والوطن والإنسانية، ولا حول ولا قوة وإلا بالله.
أمام هذا المشهد ذي الأبعاد المتداخلة: البنيوية والظّرفية، يكاد اللبيب يفقد صوابه والشفيقُ أمله، لولا حسن الرجاء في الله "وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ"، والثقة في الحكماء والعلماء ومحبي الخير والسلام الذين يتعيّن عليهم المبادرة لإطفاء الحريق وإنقاذ الغريق، وتلمُّس السبيل لوقف هذا النزيف الدموي الرهيب.
إنه لا شيء أكثر استعجالاً ولا أشدّ إلحاحاً من الحاجة إلى استعادة السكينة التي بها تتنزّل الرّحمات والبركات، ولا شيء أهم وأجدر بعنايتنا جميعاً من بناء الوئام الذي به حياةُ الأنام.
وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ... لَطاَحَ الأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَا
ذلك هو الهمّ الذي يَحدُونا في جميع مبادراتنا، والغاية السامية في كلّ ملتقياتنا.

أيها العلماء والمفكرون،
يأتي مؤتمر هذا العام امتداداً لتلك الجهود ومحطة جديدة على دروب السلام، التي سلكها المؤتمر الإفريقي منذ انطلاقته في بحثه الدائم عن أسباب الأمن والوئام، والعافية والسكينة، متنقلاً بين الموضوعات، ومتحرياً أفضل المقاربات، وهكذا جاء اختيار موضوع هذا المؤتمر "القارة الإفريقية: واجب الحوار وراهنية المصالحات" ضمن بحثنا عن معززات السلام وسبل الوئام.
إن الحديث عن الحوار ليس تَرَفا ولا فضولاً، وإنما هو من صميم واجب الوقت، المتعين على الجميع النهوض به، على مختلف المستويات، وضمن دوائر التأثير المتعددة، فالحوار هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الحروب وإيقاف العنف، وأما الأبواب المغلقة والأسماع الموصدة، فلا تقود إلا إلى مزيد من التوترات والاضطرابات بين البشر.
هل نحتاج إلى إطالة الرشاء والإطناب في الاحتجاج لإظهار مزايا الحوار، والحقيقة أنه ما من مجال من مجالات الحياة إلا وفيه مظهر من مظاهر الحوار، فمن خلاله ينسج الإنسان روابط التفاهم وأواصر الوئام مع الآخرين، وبه تشاد العلاقات بين الدول والأمم.
إن الحوار وسيلة مطلوبة في كل الظروف وعلى مختلف المستويات، إنه ضرورة قبل الحرب لتجنّبها، وأثناء الحرب لإيقافها، وبعد الحرب للتخفيف من آثارها، وضمانِ عدم عودتها.
إن الحوار في حقيقته هو التباحث والتفاوض والتداول لإيجاد أرضية مشتركة يجد فيها كل طرف مصلحته ويدرأ مفاسد الصراع والنزاع، إنه يقدم بدائل للحرب والعنف، ليحل الكلام بدل الحسام واللسان بدل السنان، والاقناع بدل الصراع، ولتتوجه همم وعزائم الشعوب، وقدرات وطاقات الدول، نحو البناء والنماء بدل التفجير والتدمير.
وديننا الحنيف بحق دين الحوار، إذ جعل الحوار مبدأ أساسياً للتواصل مع الآخر، القريب أو الغريب، المشابه أو المغاير، مع الصديق ومع العدو.
وهو مذكور في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" وقوله سبحانه "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ"، وفضله بحسب موضوعه، وهو مطلوب ومرغوب بحسب الأهداف ولو مع اختلاف الأطراف.
وهدف الحوار هو السلام، هو الحياة، هو المصلحة، وإفساح المجال لإحقاق الحق بوسائل من صميم الحق. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور قريشاً، ولنا في صلح الحديبية أسوة حسنة ونموذج سام في الحوار والصلح، وفيه قال صلى الله عليه وسلم "والَّذي نَفْسي بيدِهِ، لا يَسأَلُوني خُطَّةً يُعظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أَعْطَيتُهمْ إيَّاها"، أي لا يقدمون اقتراحاً لتجنب الدماء إلا أجبتهم إليه، قال الخطابي فيما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح "معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء".
وقال النووي في شرحه لحديث الحديبية من صحيح مسلم: "قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجاً."
إن الحوار من أجل الإصلاح والمصالح والمصالحة تنزيل للقيم وليس تنازلا عن حقيقة أو تخلّ عن حق، بل هو بحث عن أنجع السبل لإحقاق الحق ورد الظلم، وحتى لا ينقلب المظلوم ظالما.
والمستقرئ لنصوص الشرعية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفقه الأئمة، يعلم بالقطع أهمية الصلح في الإسلام، فقد وضع فقهاً متكاملاً لحل النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة، تتمثل مفردات هذا الفقه في "كتاب الصلح"، وهو باب عظيم في كل كتب الفقه الإسلامي.
فقد عرفوا الصلح بأنه: معاقدة يرتفع بها النزاع بين الخصوم، ويُتَوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين.
فهو عند أكثر الأئمة مندوب، وعند المالكية يكون واجباً إذا خيفت الفتنة والشر، فيعدل القاضي عن الحكم ويدعو إلى الصلح، فيقول ابن عاصم الغرناطي:
والصُّلحُ يَسْتَدْعي لهُ إنْ أَشْكَلاَ       حُكْم، وَإنْ تَعَيَّنَ الحقُّ فَــــــــــــــــــــــــلا
مَا لمْ يَخَفْ بنافِذِ الأحـــكــــــــــــــــــــــامِ           فتنةً أو شَحنا أولي الأرحامِ

وحكمة الصلح كما يقول الزاهد البخاري: هي أن الصلح رافعٌ لفساد واقع، أو متوقع بين المؤمنين، إذ أكثرُ ما يكونُ الصلحُ عند النزاع، والنزاع سبب الفساد، والصلح يهدمه ويرفعه، ولهذا كان من أجلّ المحاسن.
وأمر الله تعالى به في كثير من الآيات ودعا إليه في قول سبحانه وتعالى " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ ..َ"،
وقوله سبحانه:"لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا". قال القاضي أبو الوليد ابن رشد: وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين.  فالصلح يكون في كل النزاعات والخلافات، ويكون مع كل الناس، سواء أكانوا دولاً أم أفراداً، ويكون في الخلافات الزوجية، كما يكون في الحروب الدولية أو الصراعات الداخلية.
أخيراً، كما نؤكد كثيراً ونذكر، فإنه بالسلم تحقن الدماء المعصومة وتحفظ الحرمات المصونة، وبالسلم تحقق المصالح وتعمر الأرض، والسلم يتسع لكل المطالب، فمن كان مطلبه التنمية فالسلم طريقها وبساطها، ومن طلب الحكامة الرشيدة فبالسلم تنال وعليه تشاد دعائمها، ومن كان يطلب الدين والشريعة فالسلم هو مفتاحها، فبالسلم تقام في المساجد الصلوات، ويرفع في المآذن النداء والدعوات، وتصان الكليات الخمس التي بها قوام الديانات (الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة).
ولقد صدق العبّاس بن مرداس السلمي رضي الله عنه حين قال:
السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به***وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

الختام
ختاماً، إننا ونحن نجتمع في هذا المؤتمر نعلم أن القضايا المطروحة عليكم ليست سهلة ولا ميسرة بل معقدة ومتداخلة ولكننا -في الآن نفسه- نؤمن أن هذه الأوضاع الصعبة ليست حتمية ولذا نريد أن ندافع الشر بالخير ونفر من قدر الله إلى قدر الله. راجيين أن يستجيب الله دعاء الصالحين ويتقبل عمل المصلحين ويبارك الجهود على ضعفها فتسهم في حقن الدماء وصون الاعراض ومساعدة المحتاجين.
إننا في هذه اللحظات العصيبة من التاريخ- رغم الأسى والأسف والتأثر على ما يجري في هذا العالم وعلى سفينة البشرية المهددة بالجنوح- ينبغي ألا نيأس من روح الله، ولا من الخير الكامن في قلوب البشر، فمهما ادلهمَّت الظَّلمُات يُنتظر الفجر، ومهما اشْتَدَّت الأزَماتُ يُنتظر الفَرَجُ بفضل الله ورحمته.
أشكركم جميعاً ونتطلع إلى أن يثري نقاشكم خلال أيام المؤتمر هذه المواضيع، وتخرجوا لنا بتوصيات علمية وعملية تسهم في تحقيق المراد.
وأسأل الله أن يحفظ الأوطان، وينشر الأمن والأمان، ويصلح الأعمال، ويحقق الآمال، وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وبركة ويُكلِّله بالنجاح والتوفيق. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.